مما لاشك فيه أن الظروف التاريخية التي شهدها العالم عقب حربين عالمتين في منتصف القرن العشرين كانت تستوجب نشأة هيئة دولية لتحقيق السلم والأمن الدوليين وتكفل التعاون بين شعوب المعمورة فجاءت هيئة الأمم المتحدة.
إلا أن الأمر الذي بات يثير القلق لدى الكثيرين أن هذه الهيئة صارت أداة طيعة في يد البعض من مبشري النظام العالمي الجديد، وأعداء الإنجاب والسكان، والأنثويات، والذين إتفقت مصالحهم فركبوا جميعاً الجواد الرابح وهو إستثمار قضايا المرأة، فأصدروا ديناً جديداً ليكون مرجعية كونية قانونية، بدعوى أن تلك المرجعية القانونية تمثل مشتركاً إنسانياً، بينما في حقيقة الأمر لاتعكس إلا تصورات ثقافية واحدة، وهي الثقافة الغربية، والتي وصل الغرب بسببها إلى حافة الهاوية، وبات مهددا بالفناء، حاله في ذلك حال كل الأمم التي شاعت فيها الفواحش، فكان مصيرها الدمار والفناء.
ورغم ما يعانيه الغرب من ويلات، جراء هذه الإباحية، إلا أنه يأبى أن يغرق وحده، ويصر على أن يجر العالم وراءه، في محاولات مستميتة لعولمة تلك الإباحية وتقنينها، وذلك عبر مؤتمرات دولية بات الهدف منها واضحاً هو: نسج شبكة من القوانين الملزمة دولياً لعولمة وتقنين القيم والسلوكيات المجتمعية الغربية، وخاصة فيما يتعلق بالأسرة.
ففي مجال الطفل، أصدرت الأمم المتحدة إتفاقية حقوق الطفل عام 1989م، وهي إتفاقية دولية ملزمة، وبعد ثلاثة عشر عاما، صدرت وثيقة عالم جدير بالأطفال، كوثيقة آليات وسياسات لتفعيل وتطبيق CRC.
وإذا كانت قضايا المرأة هي السهم الذي يُصوَّب لإختراق المجتمعات، ومن ثم أصدروا لها مجموعة من الإتفاقيات التي تزخر بكل ماهو شاذ عن الفطرة، فإن الطفل هو رأس هذا السهم، مع ملاحظة أن نفس الأجندة النسوية المطروحة في إتفاقيات المرأة، هي ذاتها المطروحة في إتفاقيات الطفل، وذلك لتغلغل الأنثويات فيكافة الأجهزة والوكالات الدولية التي أنشأتها الأمم المتحدة لمراقبة الدول في تطبيق تلك الإتفاقيات، ومنها على سبيل الخصوص لجنة مركز المرأة، التي ركزت حديثا على الطفل، فجاءت جلستها الحادية والخمسين -مارس 2007- بعنوان: القضاء على كافة أشكال العنف والتمييز ضد الطفلة الأنثى، ويرجع التركيز على الطفل في الآونة الأخيرة إلى:
☻أولاً: لأنه السبيل لتكوين ماتنشده الحركات الأنثوية والتي تهدف إلى إيجاد المرأة الجديدة، والرجل الجديد، وهذا لن يتم إلا بإرضاع الطفل تلك القيم مع لعبه وأكله وشربه فيشب منذ صغره على التساوي التام بين الذكر والأنثى، وإلغاء كافة الفوارق بينهما، والإيمان بأن كل الأدوار يمكن أن يتقاسمها كل من الذكر والأنثى، أو حتى يتبادلانها.
☻ثانياً: أن المقاومة في هذا الشأن ستكون ضعيفة، خاصة إذا ما تم تقنين القيم المستهدف تنشئته عليها تحت دعاوى إنسانية من قبيل الشفقة بالأطفال، والعمل على سعادتهم وحمايتهم فمن الذي يستطيع أن يرفض ما يحقق الرفاهة للأطفال!!
وإتفاقية حقوق الطفل وغيرها من المواثيق الدولية، حافلة بالعديد من المفاهيم والمصطلحات النابعة من الثقافة الغربية، والتي لا يمكن فهمها فهما صحيحا إلا من خلال البيئة الأصلية التي أفرزتها، وهو ما يعرف بجغرافية المصطلح، ويشهد العالم هذه الأيام تسليط الضوء على هذه الإتفاقية بمناسبة الإحتفال بمرور عشرين عاما عليها بشكل مبالغ فيه إلى حد ما يمكن تسميته بالظاهرة في حجم المواد الإعلامية المنشورة حول هذه المناسبة، فضلا عن الندوات والمؤتمرات التى عقدت من أجلها وأحدثها المؤتمر رفيع المستوى الذى نظمته مصر فى الفترة من 21- 25 من نوفمبر بالتعاون مع منظمة المؤتمر الإسلامى ومنظمة اليونيسيف وصندوق الأمم المتحدة للسكان وعدة منظمات إقليمية دولية.
وقد يقول قائل: تشرع الهيئة الدولية ما شاءت من إتفاقيات فلن تكون لبنوده أى تأثير وستظل حبرا على ورق ولن يضيرنا شىء الإ أن دراسة البنية التشريعية في العقود الثلاثة الأخيرة يكشف عن خطأ هذا الادعاء، فقد تعرضت تلك البنية فى كثير من الدول الإسلامية إلى علمنة لا تخفى على كل ذي لب، وهي عملية تمت على مراحل متتالية تحت دعاوى متعددة، سُميت بالتحديث تارة، وبالإستجابة لمتغيرات العصر تارة أخرى، حتى وإن نتج عنها قوانين تخالف قيمنا الحضارية، وهذا يشكل خطرٌ داهم على الأمة العربية والإسلامية بأسرها.
فالقوانين التي تؤدي إلى غلق أبواب الحلال برفع سن الزواج، وفتح أبواب الحرام على مصراعيها، ستؤدي لا محالة إلى إنتشار الفواحش وتزايد معدلاتها، خاصة إذا ما أفسحت تلك القوانين السبل أمام الإعتراف بصور الإقتران غير الشرعي الآخذة في الإنتشار بين الشباب، وتمهيد الطرق لها بتيسير نَسَب الأطفال غير الشرعيين -ثمار تلك الصور الشاذة من الإقتران المحرم- بإستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة، بل وقبول دعاوى التطليق إستنادا لأي ورقة تثبت هذا الإقتران المشبوه.
تلك القوانين ستؤدي بلا أدنى شك إلى إفساد الشباب، وصرفه عن الزواج ودفعه دفعا إلى الإكتفاء بالعلاقات المحرمة كبديل سهل ومتاح.
إننا لانرفض رفاهة الطفل وإنما نعترض على إصرار هيئة الأمم المتحدة على فرض الرؤية الأوحد لقضايا الطفل، وطرح الحل الأوحد للمشاكل التي يعاني منها الأطفال في العالم، وعدم مراعاة الخصوصيات الحضارية المتنوعة لشعوب العالم وتجاهل التباينات الواسعة في الثقافات المختلفة، وأثرها في نوعية المشكلات وبالتالي نوعية الحلول لها.. لأن هذا الإصرار سيؤدي إلى رفض تلك الشعوب لما يملى عليها من قوانين شاذة، وغريبة، وإذا ما أصرت الحكومات على فرض تلك القوانين، ستحدث فجوات واسعة بينها وبين الشعوب، وهو ما ينذر بالخطر الشديد.
وجل ما نخشاه، أن ينتقل إلى المجتمعات العربية والإسلامية ما تعاني منه المجتمعات الغربية من تهتك خطير في البنية الإجتماعية، وتشوه للفطرة السوية التي خلق الله سبحانه وتعالى الخلق عليها، فيُكتفى بالعلاقات المحرمة، وتقل معدلات الزواج، وتنهدم الأسرة، وينتشر الأطفال غير الشرعيين، وما يستتبعه ذلك من إنتشار للرذيلة وشيوع الجريمة.
وإذا كان لدى المجتمعات الغربية من عناصر القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ما يعينها على الصمود رغم تهلهل بنيانها الإجتماعي، فإن الدول العربية والإسلامية لا تملك من تلك العناصر إلا عنصرا واحدا فقط.. هو الأسرة.. فإذا ما تهدّم هذا العنصر.. ضاعت وفنيت مجتمعاتنا عن بكرة أبيها.. فهل ننتبه إلى هذا قبل فوات الأوان ونفيء إلى ديننا الحنيف ننهل منه، ونستخرج ما به من كنوز حفظ الله تعالى بها مجتمعاتنا وأجيالنا من الضياع عبر العصور، نسأل الله لأمتنا السداد والرشاد.
الكاتب: أ. سيدة محمود.
المصدر: المنتدي الإسلامي العالمي للإسرة والمرأة.